فصل: الركن الثالث: في كيفية إنهاء الحكم إلى القاضي الآخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.الفصل الثاني: في مستند قضائه:

وإنما يقضي بالحجة. قال محمد بن عبد الحكم: يقضي القاضي بما في كتاب الله فإن لم يجد في كتاب الله ففي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في سنة رسول اله صلى الله عليه وسلم قضى بما قضى به أصحابه رضوان الله عليهم، فإن لم يكن في الحادثة شيء من هذا ولا إجماع من المتقدمين اجتهد رأيه بعد ذلك، ومثل الأشياء بعضها ببعض من النظائر والأشباه، وشاور ثم حكم. وإذا أشكل على القاضي الأمر، ولم يتبين له شيء يحكم به فيه تركه أبدًا، لا يحكم في شيء وفي قلبه منه شك ولا ريب. قال سحنون في كتاب ابنه: إذا كانت شبهة وأشكل الأمر، فلا بأس أن يأمرهما بالصلح.
وقال مالك في كتاب محمد في بعض المسائل: لو اصطلحا.
ولا يقضي القاضي بعلمه في المدعى به بحال، سواء علمه قبل التولية أو بعدها، في غير مجلس قضائه، أو فيه قبل الشروع في المحاكمة أو بعده.
وقال عبد الملك وسحنون: يحكم بما علم بعد الشروع في المحاكمة.
فرع:
فإن حكم بعلمه حيث قلنا: لا يحكم، فقال القاضي أبو الحسن: لا ينقض عند بعض أصحابنا. قال: وعندي أنه ينقض. ولو أنكر الخصم بعد الحكم عليه وقال: ما كنت أقررت، ففي قبول حكم الحاكم عليه في ذلك خلاف.
وقال أبو إسحاق التونسي: لم يذكر في كتاب محمد خلافًا فيما رآه القاضي أو سمعه في غير مجلس قضائه أنه لا يحكم به، وأنه ينقض إن حكم به ينقضه هو وغيره، وإنما الخلاف فيما يتقاضى به الخصمان في مجلسه، فإن حكم به فينقضه هو ولا ينقضه غيره. وعبد الملك وسحنون يريان أنه يحكم به مثل قول أهل العراق للضرورة إلى ذلك، كما استعمل علمه في عدالة البينة وتجريحها، ويحكم بعلمه في ذلك.
وقال أبو الحسن اللخمي: قد اختلف إذا أقر بعد أن جلسا للخصومة ثم أنكر، فقال مالك وابن القاسم: لا يحكم بعلمه.
وقال عبد الملك وسحنون: يحكم، ورأيا أنهما إذا جلسا للمحاكمة فقد رضيا أن يحكم بينهما بما يقولانه، ولذلك قصدا، فإن لم ينكر حتى حكم، ثم أنكر بعد الحكم، وقال: ما كنت أقررت بشيء، ولم ينظر إلى إنكاره، قال: وهذا هو المشهور من المذهب.
وقال ابن الجلاب إذا ذكر الحاكم أنه حكم في أمر من الأمور وأنكر المحكوم عليه لم يقبل قول الحاكم إلا ببينة. قال أبو الحسن اللخمي وهو أشبه في قضاة اليوم لضعف عدالتهم.
وقال أيضًا: ولا أرى أن يباح هذا، اليوم لأحد من القضاة.
ولا خلاف في اعتماد القاضي على علمه في الجرح والتعديل، فإذا علم فسق الشاهد أو كذبه وقف عن القضاء، ويغنيه علمه بعدالة الشهود عن المزكين.
وأما الخط فلا يعتمده إذا لم يتذكر، كما ذكر القاضي أبو محمد. وحكى الشيخ أبو عمر رواية، أنه لا يلتفت إلى البينة بذلك ولا يحكم بها.
ولو شهد الشاهدان على قضائه عند غيره لحكم بشهادتهما ونفذ قضاؤه. قال ابن حبيب: أخبرني أصبغ عن أبن وهب عن مالك في القاضي يقضي بقضاء ثم ينكره، فيشهد عليه به شاهدان، فلينفذ ذلك، وإن أنكره الذي قضى به، معزولاً كان أو لم يعزل.

.الفصل الثالث: في التسوية:

وليس بين الخصمين في المجلس، والنظر، وجواب السلام، وأنواع الإكرام. والمسلم والذمي في ذلك سواء. وله، في قول، أن يرفع المسلم على الذمي في المجلس.
فإذا استقر بهما المجلس، فإن بدر أحدهما بالدعوى طالب الآخر بالجواب، فإن أقر ثبت الحق، وإن أنكر قال المدعي: ألك بينة؟ فإن قال: لا بينة لي واستحلفه، ثم جاء ببينة سمعت، على إحدى الروايتين، ولم تسمع على الرواية المشهورة، إلا أن يظهر له عذر من نسيان أو غيره.
قال محمد بن عبد الحكم: وإن لم يبدر واحد منهما، سألهما: من الطالب منكما؟، فإذا عرفه سأله عما يدعي، وأمر المدعي عليه ألا يتكلم حتى يفرغ المدعي من كلامه، ثم يسأله: أيقر أم ينكر، فإن أقر قال للطالب: أشهد على إقراره إن شئت لئلا يرجع عنه.
فإن تنازعا في تعيين المدعي، فإن ادعى كل واحد منهما أنه هو، نظر إلى الجانب منهما لصاحبه، فإن لم يعرف أمرًا بالانصراف، فمن أبى إلا المحاكمة فهو المدعي، فإن أبيا أقرع بينهما، وإن قال كل واحد منهما لصاحبه: أنت المدعي، أمرا بالانصراف، أيضًا، حتى يأتي أحدهما فيكون المدعي.
ثم حيث تعين المدعي وتمت حجته، وانتهت حجة المدعى عليه، فأراد الحكم عليه، فليقل له: أبقيت لك حجة؟ فإن قال: لا، حكم عليه.
قال محمد: وإن قال: نعم، وقد تبين للقاضي أن حجته نفذت وهو في طريق اللدد، فإنه يضرب له أجلاً غير بعيد، فإذا تبين لدده أنفذ الحكم عليه ولو ادعى بينة بعيدة مثل أن يقول: بالعراق أو مصر، فإنه يقضي عليه، متى جاءت ببينة فهو على حجته عند هذا القاضي وعند غيره، وينبغي له أن يذكر في القضية أنه زعم أن له بينة غائبة على بعد من البلاد. فمتى حضرت شهوده كان على حجته.
فرع:
لو حكم عليه بعد قوله: إنه لا حجة له، ثم أتى بحجة، مثل أن يأتي بشاهد آخر عند من لم يحكم بشاهد ويمين، أو يأتي بينة لم يعلم بها، فجعل ذلك له في الكتاب.
وقال محمد: إنما ذلك إذا كان هو القاضي بنفسه، وأما غيره فلا.
وقال سحنون: لا يقبل منه وإن كان لذلك وجه. قال أبو إسحاق التونسي: والأشبه ما في الكتاب، وإن غيره من القضاة ينظر في ذلك.
وإذا تزاحم المدعون قدم السابق، فإن تساووا أقرع بينهم. ولا يقدم الشرف ولا لغيره إلا المسافر المستوفز إن رأى في تقديمه مصلحة، وما يخشى فواته. وينبغي له أن يفرد للنساء يومًا، أو وقتًا من كل يوم. وكذلك يفعل المفتي والمدرس عند التزاحم.

.الفصل الرابع: في التزكية:

ومن كان مشهورًا بالعدالة والفضل لم يسأل عنه، وأجاز شهادته وكذلك من عرفَهُ بِجُرْحّةَ أو كان مشهورًا بذلك، فإنه يرد شهادته. وإنما يجب عليه الاستزكاء مهما شك وإن سكت الخصم. إلا أن يقر بعدالتهما. وليكتب للمزكين أسماء الشاهدين والخصمين فلعلهم يعرفون بينهم عداوة.
وقال محمد بن عبد الحكم: ويجعل أصحاب مسائل يسألون عن الشهود، وأحب له أن لا يعرفوا.
وإذا أخرج أسماء الشهود لأصحاب المسائل كتب أسماء الشهود، واحتاط بالأسماء والأنساب والكنى والصفة والتحلية والصناعة والقبائل، والخضاب إن كان يخضب، والمنازل لئلا يوافق اسم اسما أو نسب نسبًا، ويكتب لهم لمن شهدوا، وعلى من شهدوا، لئلا يسألوا عنهم من شهدوا له أو عليه.
قال مطرف وابن الماجشون: ولا يجتزأ بتعديل العلانية دون تعديل السر، وقد يجتزئ بتعديل السر دون تعديل العلانية.
وقال أصبغ: وليكن التعديل سرًا وعلانية. ولا أحب أن يجتزئ بتعديل العلانية دون تعديل السر. قال مالك: ولا أحب أن يسأل في السر أقل من اثنين إلا في مثل الفائقين في العدالة والعلم بالتعديل.
قال سحنون: ولا يقبل تعديل الأبله، وليس كل من تجوز شهادته يجوز تعديله، ولا يجوز في العدالة إلى المميز النافذ الفطن الذي لا يخدع في عقله، ولا يستزل في رأيه.
ويشترط في المزكي أن يكون خبيرًا بباطن من يعدله بطول المحنة والمعاشرة، ولا يحتزي باليسير من ذلك.
قال مالك: والرجل يصحب الرجل شهرًا فلا يعلم منه إلا خيرًا لا يزكيه بهذا، وهو كبعض من يجالسك، وليس هذا باختيار. ويقال أيضًا: كان يقال لمن مدح رجلاً: أصحبته في سفر؟ أو خالطته في مال؟.
وقال سحنون: يزكيه من يعرف باطنه كما يعرف ظاهره ممن صحبه الصحبة الطويلة، وعامله بالأخذ والعطاء. قال ابنه عنه: في السفر والحضر، فإذا عرف منه اجتناب الكذب والكبائر وأداء الأمانة وحسن المعاملة زكاة.
فروع:
الفرع الأول: إن التعديل من جيران الشاهد، وأهل سوقه، وأهل محلته مقبول، ولا يقبل من غيرهم، لأن توقفهم على تعديله، مع كونهم أقعد به وأعلم ريبة في عدالته، إلا أن لا يكون فيهم عدل فيقبل من غيرهم من سائر بلده.
الفرع الثاني:
في صفة المزكي.
وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ: لا يجوز تعديل الرجل وإن كان عدلاً حتى يعرف وجه التعديل. ورواه مطرف.
وفي الكتاب: لا يجوز أن يكون المعدلان غير معروفين عند الحاكم إذا كان شاهد الأصل من البلد، وإن كان غريبًا جاز.
الفرع الثالث:
إن الجرح يسمع في الرجل المتوسط العدالة، ويسمع أيضًا في المبرز المعروف بالصلاح والفضل من باب العداوة أو الهجرة أو القرابة وما أشبه ذلك.
واختلف هل يقبل تجريحه من وجه القدح في العدالة، فمنعه أصبغ. وأجازه سحنون، وقال: يمكن من التجريح فيه، ولا يفرق بين وجوه التجريح.
الفرع الرابع:
وهو مرتب إذا قبل تجريحه، فقال سحنون: لا يقبل ذلك إلا من الرجل المميز العدالة.
وقال أصبغ: لا يمكن الخصم من جرحة العدلين الفائقين بالعدالة بجرحه الإسقاط إن ادعى ذلك، إلا بجرحة عداوة أو هجرة، فقد يكون ذلك في الصالح والبارز.
وقال ابن الماجشون: يجرح الشاهد من هو مثله وفوقه، ولا يجرحه من هو دونه إلا بالعداوة والهجرة. وأما القدح في العدالة فلا.
وقال محمد بن عبد الحكم: إذا كان الرجل مبرز العدالة لم يقبل جرحه، إلا أن يكونوا معروفي العدالة وأعدل منه، ويذكرون ما جرحوه به مما يثبت بالكشف، ولا يقبل تجريحه إلا بأهل العدالة البينة.
وقال مطرف: يجرح الشاهد بمن هو مثله وفوقه ودونه بالإسقاط والعداوة إذا كان عدلاً عارفاً بوجه التجريح. قال أبو الحسن اللخمي: وهذا أحسن، لأن الجرح يكتمه الإنسان من نفسه، فيطلع عليه بعض الناس، وهي شهادة وعلم عنده يؤديه مثل سائر الشهادات.
الفرع الخامس: قال ابن كنانة في المجموعة: لا ينبغي للحاكم أن يسأل عن الشاهد في التجريح قبل تعديله، ولا يقبل الجرح فيمن لم تثبت عنده عدالته، فإذا عدل الشاهد قال الحاكم للمطلوب: جرح، وإلا حكمت عليك. وروى أشهب فيها: لا يقول للمطلوب: دونك فجرح، وفي ذلك توهين للشهادة.
وقال ابن نافع: أرى أن يقول له ذلك ويمكنه منه، وقد يكون العدل عدوًا للمشهود عليه.
وقال مطرف وابن الماجشون: لا يحكم على الخصم، جاهلاً كان أو عالمًا، حتى يطلبه بجرحه من شهد عليه ويؤجله في ذلك، فإن عجز حكم عليه، وذكر ذلك في كتاب حكمه عليه.
الفرع السادس: في التجريح سرًا.
في المجموعة: قيل لابن القاسم: أيجرح الشاهد سرًا وقد يقول: من يجرحه: أكره عداوة الناس؟، قال: نعم، إذا كانوا أهل عدالة.
وقال سحنون مثله، وذكر في موضع آخر: إن المشهود له إذا سأل القاضي أن يخبره بمن جرح شاهده أن عليه أن يخبره بذلك.
الفرع السابع: في لفظه التزكية.
وليجمع المزكي في لفظه بين ذكر العدالة والرضا، فيشهد أنه عدل رضا، ولا يقتصر على أحد الوصفين. قال مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ: ويجزيه أن يقول: أراه عدلاً رضا رضا، وليس عليه أن يقول: هو عدل رضا عند الله، تعالى ولا أن يقول: أرضاه علي ولي. ورواه أشهب.
وروى ابن كنانة: التعديل أن يقول: أعرفه وأعلمه عدلاً رضا جائز الشهادة. ولا يقبل منه إذا قال: لا أعلمه إلا عدلاً رضا. قال سحنون: ولا يقبل منه حتى يقول: إنه عدل رضا، ولا يجب ذكر سبب العدالة.
واختلف في ذكر سبب الجرح، فقيل: يجب، وقيل: لا يجب. وفرق مطرف وابن الماجشون باعتبار حال الشاهدين، فأوجباه إذا كانا غير عارفين بوجوه التجريح،ولم يوجباه إذا كانا عالمين بذلك.
واعتبر أشهب حال الشاهد، فأوجب ذكر سبب الجراح إذا كان مشهور العدالة، ولم يوجبه إذا كان غير مشهورها، وإنما قبل بالتزكية.
الفرع الثامن: إذا ارتاب القاضي بعد التزكية لتوهم غلط الشاهد، فليبحث ويسأل عن التفصيل، فربما يختلف كلام الشاهد، فإن أصر على إعادة الكلام الأول أمضاه. وعلى القاضي أن يحكم بعد البحث استصحابًا للعدالة.
الفرع التاسع: بينة الجرح مقدمة على بينة التعديل. وقيل: يقدم الأرجح منهما. واختار أبو الحسن تفصيلاً، فقال: إن تقابلت البينتان في مجلس واحد قدم الأرجح، وإن كانتا في مجلسين متقاربين قدمت بينة الجرح، وإن تباعد ما بين المجلسين قضى بالأخيرة منهما، كان جرحًا آو تعديلاً.
وقول واحد في الجرح لا يقابل بينة التعديل، إلا أن يكون مقامًا من جهة الحاكم للكشف عن ذلك فيخبره عن عدلين فأكثر، ولا يجوز الجرح والتعديل بالتسامح.
الفرع العاشر: في تكرير التزكية.
وفي المجموعة من رواية أشهب، في الرجل يشهد فيزكي، ثم يشهد ثانية: إن شهادته تقبل بالتزكية الأولى، وليس الناس كلهم سواء، منهم المشهور العدالة، ومنه من يغمص فيه بعض الناس.
وقال سحنون: إذا عاد المزكي فيشهد مرة أخرى رجع المزكي ثانيًا وثالثًا حتى يكثر تعديله وتشتهر تزكيته فيقبل بغير تزكية.
وقال الشيخ أبو الوليد: هذا استحسان من سحنون، حتى لو مات المزكيان الأولان أو غابا، ولم يوجد غيرهما، وجب الحكم بتعديلهما الأول.
وروى ابن حبيب عن مالك ومطرف وابن الماجشون: لا يحتاج إلى إعادة المزكي إلا أن يغمز فيه بشيء أو يرتاب فيه.
وقال ابن كانة: لا يحتاج إلى الإعادة في المشهور العدالة في تزكيته.
وقال محمد بن عبد الحكم: أحب أن يعيد القاضي من الشهود في المسألة من إنما يعدل بالمسألة عنه في كل سنة أو أقل، ليس في ذلك حد على قدر الاجتهاد.

.الباب الثالث: في القضاء على الغائب:

وهو نافذ.

.ويتعلق النظر فيه بأركان:

.الركن الأول: الدعوى:

ولتكن معلومة، أعني جنس المدعى به وقدره، ولتكن مع المدعي بينة.

.الركن الثاني: المدعي:

ويحلفه القاضي بعد البينة على عدم الإبراء، والاستيفاء والاعتياض والإحالة والاحتيال والتوكيل على الاقتضاء في جميع الحق ولا في بعضه، ولا يجب التعرض في اليمين لصدق الشهود.
وقال الشيخ أبو إسحاق: يقول في آخر اليمين: وإنه لحق ثابت له عليه إلى يومه ذلك.

.الركن الثالث: في كيفية إنهاء الحكم إلى القاضي الآخر:

وذلك بالإشهاد والكتاب والمشافهة.
أما الإشهاد فبأن يشهد شاهدان على تفصيل حكمه. قال سحنون: ولو أشهد على كتابه وخاتمه رجلاً وامرأتين جاز فيما تجوز فيه شهادة النساء.
ويستحب أن يكتب ذلك في كتاب مختوم، والاعتماد على الشهادة، فلو شهد بخلاف ما في الكاتب جاز إذا طابق الدعوى، ولو شهد بما فيه وهو مفتوح بغير ختم لجاز أيضًا. ولو قال القاضي: أشهدتكما على أن ما في الكتاب خطي، كفى ذلك على إحدى الروايتين. وكذلك لو قال: ما في الكتاب حكمي. وكذلك لو قال المقر: أشهدتك على ما في القبالة وأنا عالم به، كفى، حتى إذا حفظ الشاهد القبالة وما فيها، وشهد على إقراره، جاز أيضًا على إحدى الروايتين، ووجه الجواز أن الإقرار بالمجهول صحيح.
ثم للشاهد على الحكم أن يشهد عند المكتوب إليه وعند غيره، وإن لم يكتب القاضي في كتابه: إلى من يصل إليه من القضاة، وكذلك يشهد، وإن مات المكتوب إليه والكاتب.
ولتكن عدالة شهود الكتاب ظاهرة عند المكتوب إليه، ولا يكفي تعديلهما في ذلك الكتاب الذي إنما يثبت بشهادتهما.
وليذكر في الكتاب اسم المحكوم عليه واسم أبيه وجده وحليته ومسكنه وصناعته أو تجارته وشهرة إن كانت له بحيث يتميز بذلك. فإن كان في ذلك البلد رجل يلائمه في ذلك كله لم يحكم له حتى يأتي ببينة، تعرف أنه المحكوم عليه بعينه. ولو كان أحد المتلايمين قد مات لم يستحق على الحي منهما ما في الكتاب حتى تشهد البينة أنه الذي استحق عليه، إلا أن يطول زمان الميت،ويعلم أنه ليس هو المراد بالشهادة لبعده، فيلزم الحي.
وأما الكتاب المجرد من غير شهادة على القاضي فلا أثر له. قال ابن القاسم وابن الماجشون: ولابد من شهود بأن هذا الكتاب كتاب فلان القاضي. وزاد أشهب: ويشهدون أنه أشهدهم عليه، وروى ابن وهب: ويشهدون أنه أشهدهم بما فيه.
وقال ابن نافع عن مالك: كان من الأمر القديم إجازة الخواتم حتى إن كان القاضي ليكتب للرجل بالكتاب إلى القاضي، فما يزيد على ختمه فيجاز له، حتى أحدث عند اتهام الناس الشهادة على خاتم القاضي: أنه خاتمه.
وقال ابن كنانة: كان إذا جاء كتاب من قاضي مكة إلى قاضي المدينة أنفذه بغير بينة، ثم نظر أهل العلم في ذلك، فخافوا أن تملك الأموال وتستحل الفروج بغير بينة، فألزموا الناس البينات على الكتب التي يأتي من كورة إلى كورة، وإذا جاء من أعراض المدينة إلى قاضي المدينة قبلوه بغير بينة يجتزئون في ذلك بمعرفة الخط والخواتم والجواب، إذا كان ذلك في الحقوق اليسيرة. وكذلك قال عبد الملك نحو هذا، ولم يذكر ما قال ابن كنانة في الحقوق اليسيرة.
وأما الشفاهة، فلو شافه القاضي قاضيًا آخر لم يكف، لان أحدهما في غير محل ولايته، فلا ينفع سماعه أو إسماعه، إلا إذا كانا قاضيين لبلدة واحدة، أو تناديا من طرفي ولا يتهما، فذلك أقوى من الشهادة فيعتمد. ولو كان المسمع في محل ولايته دون السامع ورجع السامع إلى محل ولايته فهي كشهادة يسمعها في غير محل ولايته، فلا يحكم بها إذ لا يحكم بعلمه.
ولو اقتصر القاضي على سماع البينة على الغائب وكتب إلى قاض آخر حتى يقضي المكتوب إليه جاز مهما ذكر أسماء شهود الواقعة وعلى المكتوب إليه أن يبحث على عدالة الشهود، وكأن الأول ناب عنه في سماع البينة فقط، فعليه هو التعديل والحكم، ولو كتب الأول عدالتهما وأشهد عليه جاز ذلك.
ثم إن ادعى الخصم جرحًا فليظهره ويمهل، فإن قال: لا يمكن جرحهم إلا في بلدهم فلا يمكن منه، بل يسلم المال، ثم إن ظهر الجرح استرد.
فرع:
إذا ورد كتاب قاض على قاض، فإن عرفه بأنه أهل للقضاء قبله. قال في المجموعة: إذا كتب قاض إلى قاض، فإن ثبت عنده أن الذي كتب إليه مستحق للقضاء في فهمه ومعرفته بأحكام من مضى وآثارهم مع فضله ودينه وورعه وانتباهه وفطنته، وغير مخدوع في عقله، فليقبله، وإن عرفه بأنه ليس بأهل لذلك لم يقبله. قال أشهب في رواية سحنون عنه: إذا كتب إليه غير العدل أن بينة فلان ثبتت عندي، فلا يقبل كتابه، لأنه ممن لا تجوز شهادته.
وإن لم يعرف حاله، فروى ابن حبيب عن أصبغ: إن جاءه بكتاب قاض لا يعرفه بعدالة ولا سخطه، فإن كان من قضاة الأمصار الجامعة، مثل المدينة ومكة والعراق والشام ومصر والقيروان والأندلس، فلينفذه وإن لم يعرفه، وليحمل مثل هؤلاء على الصحة.
وأما قضاة الكور الصغار، فلا ينفذه حتى يسأل عنه العدول وعن حاله.

.الركن الرابع: المحكوم به:

وذلك لا يخفى في الدين، وكذلك العقار الذي يمكن تعريفه بالحد، إذا قلنا: قضي على الغائب في العقار، إما لبعد الغيبة، أو مطلقًا على الرواية الأخرى.
أما العبد والفرس وما يتميز بعلامة، فقال ابن القاسم وسحنون: يحكم فيه بذلك إن كان غائبًا.
وقال ابن كنانة: إن كان العبد لا يدعي الحرية ولا يدعي أحد ملكه حكم فيه بالصفة، وإن كان يدعي الحرية أو يدعيه من هو في يده فلا يحكم فيه بذلك.

.الركن الخامس: المحكوم عليه:

وشرطه أن يكون غائبًا عن البلد. واشترط محمد بن عبد الحكم أن يكون له بالبلد الذي يحكم عليه فيه مال أو حميل أو وكيل. قال: إذ لم يول الحكم على جميع الناس، إنما ولي على أهل بلد خاص، قال: ولكن ينقل الشهادات إلى غيره من القضاة.
وإذا كان المدعى عليه في البلد فقال سحنون: لا تسمع البينة دون حضوره، إلا أن يتوارى أو يتعذر فيقضي عليه كالغالب.
وقال ابن حبيب: قال ابن الماجشون: العمل عندنا أن يسمع القاضي بينة الخصم ويوقع شهاداتهم، حضر الخصم أو لم يحضر، فإذا حضر قرأ عليه الشهادة، وفيها أسماء الشهود وأنسابهم ومساكنهم، فإن كان عنده لشهادتهم مدفع، أو لعدالتهم مجرح أطرده ذلك، وإلا لزمه القضاء. وإن سأله أن يعيد عليه البينة حتى يشهدوا بمحضره فليس ذلك له، ولا ينبغي للقاضي أن يجيبه إلى ذلك. ولو سأله الخصم بدءا ألا يسمع من بينة صاحبه إذا أتى بها إلا بمحضره، فإن خشي القاضي عليه في ذلك دلسة أو استرابة ورأى أن اجتماعهم أجمع للفصل وأبرأ من الدخل فليجبه، وإن أمن فلا يجبه، فإن أجابه، حين سأله ذلك من غير شيء خافه عليه، فليمض له ذلك، لاختلاف الناس فيه، فقد قال بعض العراقيين: لا يكون إيقاع الشهادة إلا بمحضر الخصم المشهود عليه. قال ابن حبيب: وقال مطرف وأصبغ مثله.
وقال فضل بن سلمة: سحنون لا يرى إيقاع الشهادة إلا بمحضر الخصم، إلا أن يكون الخصم غائبًا غيبة بعيدة.

.واختتام الباب بذكر فروع:

الفرع الأول: إذا غاب الخصم ولم يكن موضعه يزيد على مسافة العدوى أحضره القاضي. قال محمد بن عبد الحكم: إذا استعدى الرجل على الرجل، فإن كان في المصير معه أعطاه عدواه، بخاتم يختمه له، أو رسول يرسله حتى يجلبه إليه، وكذلك إن كان في القرب من المصر، فأحب إلي أن يجلبه إذا كان يقدر على أن يأتيه وينظر بينه وبين خصمه، ويرجع فيبيت في منزله.
قال محمد: وإنما هذا إذا كان السبيل مأمونًا لا يخاف على الذي يجلبه إليه في طريقه الخوف الذي يقل معه الأمن، فأما إذا كان الأغلب السلامة وإنما يقع الخوف الفلتة والمرة في الزمان، فإنه يجلب لأن هذا أمر لا تخلو منه الدنيا.
الفرع الثاني:
إذا كان موضعه يزيد على المسافة المذكورة، فقد قال محمد: وإذا كان بعيدًا من المصر، على ما فسرت لك، لم يجلبه، إلا أن يثبت عليه شاهدان أو شاهد بحق، فيكتب إليه مع ثقة: إما أن يرضي خصمه، وإما أن يحضر معه.
الفرع الثالث:
إذا كان للغائب مال في البلد وجبت التوفية منه.
الفرع الرابع:
يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في العقوبات وفي القصاص والحدود الفرع الخامس: المخدرة لا تحضر مجلس الحكم لتحلف في اليسير، بل يبعث الحاكم إليها من يحلفها،والمعني بالمخدرة من يزري بمثلها حضور مجال الأحكام، وإن كانت تتصرف وتخرج إلى غير ذلك، فأما فيما له بال من الحقوق فتخرج إلى المسجد ليلاً.
الفرع السادس: ليس للقاضي أن زوج امرأة خارجة عن ولايته، إلا إذا دخلت ولايته.
الفرع السابع: إذا كان في ولايته يتيم قد مسته الحاجة وله أموال بعمل آخر في ولاية غيره، فإنه يكتب إلى الغير يعلمه بحال الطفل وحاجته. ويقتضي منه بيع ماله وتنفيذه لنظر له، فإذا ورد كتابه باع المكتوب إليه من مال اليتيم أقل رباعه رداً عليه وأحقها بالبيع، وصير الثمن لينظر فيه.

.كتاب الشهادات:

وفيه ستة أبواب:

.الباب الأول: فيما يفيد أهلية الشهادة:

وما يفيد قبولها وما يمنع منه.
فأما ما يفيد أهليتها فثلاثة أوصاف، وهي: التكليف،والحرية والإسلام. فلا تقبل شهادة غير مكلف، ولا يستثنى من ذلك إلا شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الدماء على شروط يأتي بيانها، وإنما استثنيت لأن الشرع ندب إلى تعليمهم الرمي والثقاف والصراع إلى سائر ما يدربهم على حمل السلاح والطعن والضرب، والكر والفر وتوقيح أقدامهم وتصليب أعضائهم، وتعليمهم البطش والحمية والأنفقة من العار والفرار، ومعلوم أنهم في غالب أحوالهم يخلون بأنفسهم في ذلك وقد يجني بعضهم على بعض. فلو لم يقبل قول بعضهم على بعض لأهدرت دماؤهم، لا سيما وقد احتاط الشرع فحقن الدماء حتى قبل فيها اللوث واليمين وإن كان لم يقبل ذلك في درهم واحد.
وعلى قبول شهادتهم تواطأت مذاهب السلف الصالح رضوان الله عليهم، فلقال به من الصحابة علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. ومن التابعين سعيد بن المسيب وعبد الله وعروة ابنا الزبير ومحمد بن علي بن الحسين وعمر بن عبد العزيز والشعبي والنخعي وشريح وابن أبي ليلى وابن شهاب وابن أبي مليكة،وقال: ما أدركت القضاة إلا وهم يحكمون بقول ابن الزبير وأبي الزناد، وقال: هي السنة وهو مذهب أهل المدينة.
إذا ثبت ذلك فالشروط: كونهم يعقلون الشهادة، أحرارًا، ذكورًا محكومًا لهم بالإسلام، اثنين فصاعدًا، متفقين غير مختلفين، يكون ذلك بديهتهم قبل تفرقتهم وتخيبهم. ويكون ذلك لبعض على بعض، ويكون في القتل والجراح خاصة. ولا تقبل شهادتهم على كبير أنه قتل صغيرًا، أو على صغير أنه قتل كبيرًا.
فإذا شهدوا ثم رجعوا عن شهادتهم أخذ بالشهادة الأولى، ولم يلتفت إلى ما رجعوا إليه.
واختلف من هذه الأوصاف في اثنين: أحدهما الذكورية، فروي اشتراطها، وبه قال أشهب. وحكى سحنون في المجموعة اختلاف قول ابن القاسم في اشتراطها.
وقال المغيرة في كتاب ابن سحنون: تجوز شهادة إناثهم.
والآخر قبول شهادتهم في القتل، فروي ابن القاسم قبولها فيه، وبه قال المغيرة. وأشهب يمنع من ذلك ويخصها بالجراح.
فرع:
اختلف في العداوة والقرابة هل تقدح في شهادتهم أم لا؟ ولم يختلف أنه لا يعتبر فيهم تعديل ولا تجريح.
عدنا إلى الأصل. ولا تقبل شهادة عبد، ولا كافر أصلاً، ولا على كافر، ولا شهادة مبتدع كالقدري والخارجي وشبههم من أهل الضلالات، وإن كانوا يصلون بصلاتنا، ويستقبلون قبلتنا. قال القاضي أبو الحسن: وذلك لفسقهم، والفسق يوجب رد الشهادة، ولو كان عن تأويل غلط فيه متأول.
وأما ما يفيد قبول الشهادة وهو ما يشترط الاتصاف به بعد ثبوت الأهلي فوصفان:
الوصف الأول: العدالة، والمراد بها الاعتدال والاستواء في الأحوال الدينية، وذلك بأن يكون ظاهر الأمانة، عفيفًا عن المحارم، متوقيا للإثم، بعيدًا من الريب، مأمونًا في الرضا والغضب. قال بعض علمائنا: وليست العدالة أن يمحض الرجل الطاعة حتى لا تشوبها معصية، وذلك متعذر لا يقدر عليه إلا الأولياء والصديقون، ولكن من كانت الطاعة أكثر حاله وأغلبها عليه، وهو مجتنب للكبائر، محافظ على ترك الصغائر، فهو العدل.
قال في الكتاب: لو ثبت على الشهود أنهم شربة خمر، أو أكلة ربا، أو معروفون بالكذب في غير شيء، أو أصحاب قيان، أو مجان يلعبون بالنرد والشطرنج فذلك يسقطهم، وغيره مما يشبه، وكذلك اللاعب بالحمام إذا كان يقامر عليها، وكذلك لو كان يعصر الخمر وإن كان لا يشربها، أو يكري نفسه من الخمار. واشترط في تجريح لاعب الشطرنج أن يكون مدمنًا عليه. وكره اللعب بها وإن قل، وقال: هي أشد من النرد.
وقال غيره: لا تجوز شهادته وإن لم يكن مدمنًا.
الوصف الثاني: المروءة، فيشترط في العدل أن يكون مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه، وكل من صدر منه فعل أذن بسقوط الدين أو المروءة، فهو قادح في شهادته.
فأما حقيقة المروءة فقال القاضي أبو بكر: الضابط في المروءة ألا يأتي الإنسان ما يعتذر منه مما يبخسه عن مرتبته عند أهل الفضل.
وقال أبو القاسم بن محرز: ليس المراد بالمروءة نظافة الثوب، وفراعة المركوب، وجودة الآلة، وحسن الشارة، ولكن المراد بها التصون والسمت الحسن، وحفظ اللسان وتجنب السخف والمجون، والارتفاق عن كل خلق رديء يرى أن من تخلق به لا يحافظ معه على دينه وإن لم يكن في نفسه جرحة، وذلك كالإدمان على لعب الحمام والشطرنج وإن لم يقامر عليها، وشبه ذلك من الأمور.
وقال: وقد رأى بعض الناس أن شهادة البخيل لا تقبل، قالوا: وذلك أن إفراط البخل يؤديه إلى منع الحقوق وأخذ ما ليس بحق.
ولا ترد شهادة أرباب الحرف الدنيئة كالكناس والدباغ والحجام والحائك، وما أشبهم، إلا أن يكون التحرف بذلك على جهة الاختيار لها ممن لا يليق به، فإنها تدل على خبل في العقل، وتخرم المروءة.
قال القاضي أبو الوليد: ويشترط فيمن اجتمع فيه هذان الوصفان أن يكون عالمًا يتحمل الشهادة، لأنه من لم يكن عنده علم بتحملها لم يؤمن عليه الغلط فيها وترك ما هو شرط في صحتها. وأن يكون متحرزًا فيها ليؤمن عليه التحيل من أهل الحيل فيشهد بالباطل وهو لا يعلم.
وقال محمد بن عبد الحكم: قد يكون الرجل الخير الفاضل ضعيفًا لا يؤمن عليه، لغفلته، أن يلبس عليه، فإذا كان كذلك لم يجز للإمام قبول شهادته.
وأما ما يمنع من قبول الشهادة بعد وجود الوصفين المقتضين للقبول فالتهمة، ولها أسباب:
السبب الأول: أن يجر إلى نفسه بشهادته أو يدفع.
أما الجزء، فكمن يشهد أن فلانًا جرح موروثه، وكمن شهد بدين له ولغيره. فالمشهور أنها لا تقبل له ولا لغيره. وفي كتاب محمد أنها لا تجوز، إلا أن يكون الذي له يسيرًا جدًا. وكذلك لمن يتهم عليه، وإن كان الحق المشهود به وصية، فإن كان ماله فيها كثيرًا لم تجز شهادته له ولا لغيره. وإن كان يسيرًا، ففي الكتاب: تجوز له ولغيره، وكذلك قال مطرف. وروى غيره لا تجوز له ولغيره، وبهذا قال ابن عبد الحكم. وروي أيضًا: لا تجوز له، وتجوز لغيره، وبها قال ابن الماجشون. وألحق بالجار إلى نفسه شهادة الوصي بدين الميت إذا كان يلي ما يقبض منه.
وأما الدفع، فكشهادة بعض العاقلة بفسق شهود القتل الخطأ، فأما لو شهد رجلان لرجلين بدين لهما على رجل، وشهد المشهود لهما أيضًا للشاهدين لهما بدين على رجل آخر لقبلت الشهادتان. وكذلك شهادة رفقة القافلة في قطع الطريق بعضهم لبعض على قول ابن القاسم وروايته في الكتاب.
السبب الثاني: البعضية وما يلحق بها في تطرق التهمة من جهة النسب والسبب وما في معناهما. فلا تجوز شهادة الولد لوالده ولا الوالد لوده، ولا الجد لولد ولده، ولا ولد الولد لجده، وذلك يتضمن عمودي النسب الأعلى والأسفل، والأجداد والجدات من قبل الأب والأم والولد وولد الولد من ذكور وإناث.
وأما شهادة الأخ لأخيه، فأجازها في الكتاب من رواية ابن القاسم إلا أن يكون في عياله.
وقال بعض أصحابنا: لا تجوز على الإطلاق، وإنما تجوز على شرط، ثم اختلف في تحقيق ذلك الشرط، ففي كتاب محمد لا تجوز شهادته له إلا أن يكون مبرزًا. وقيل: تجوز إذا لم تنله صلته.
وقال أشهب: تجوز في اليسير دون الكثير، إلا أن يكون مبرزًا فتجوز في الكثير.
وقال غير هؤلاء: تقبل الشهادة للأخ إلا فيما تتضح فيه التهمة، مثل أن يشهد له بما يكتسب به الشاهد شرفًا وجاهًا، أو يدفع به معرة، أو تقتضي الطباع والعصبية فيه الغضب والحمية، كشهادته بأن فلانًا قتله، أو بجرح من جرحه. وفي جواز تعديله له ومنعه قولان لابن القاسم وأشهب.
فرع:
قال محمد بن عبد الحكم: أصحابنا يجيزون شهادة الأب والابن والزوج والزوجة على أنه وكل فلانًا، ولا تجوز شهادتهم أن فلانًا وكله، لأن الذي يوكل لا يتهمان عليه في شيء.
وقال ابنا القاسم في المجموعة: لا تجوز شهادة القرابة والموالي في الرباع التي يتهمون بجرها إليهم أو إلى بنيهم اليوم أو بعده، مثل حبس مرجعه إليهم أو إلى بنيهم.
وقال أيضًا: لا تجوز شهادة الرجل لابن امرأته أو لابنتها، وكذلك المرأة لابن زوجها. وكذلك شهادة الرجل لزوج ابنته وزوجة ابنه، ورواه عيسى عنه.
وقال سحنون: ذلك جائز.
استحسن بعض المتأخرين في الشهادة لزوج البنت وزوجة الابن أن تقبل إن كان الشاهد مبرزًا في العدالة، وألا تقبل إن لم يكن كذلك.
قال أبو القاسم بن محرز: وقد اختلف في شهادة الأب لبعض ولده على بعض، والولد لأحد أبويه على الآخر، قال: والصواب إجازة ذلك، لأن الشاهد قد استوت حاله فيمن شهد له ومن شهد عليه، فصار بمنزلة شهادته لأجنبي على أجنبي، ما لم يكن هنالك ميل ظاهر إلى المشهود له مثل أن يكون باراً به أو صغيرًا أو سفيهًا في ولايته،أو يكون المشهود عليه عاقًا له، أو تكون حالة الشاهد مع أحد أبويه حالة توجب تهمة، فيمنع ذلك من قبول شهادته بينهما لمن يتم له منهما. وهذا كله إذا اعتبر عند نزوله لم يخف وجه الصواب.
ورأى الإمام أبو عبد الله أن هذا مقتضى التعليل بالتهمة، ثم قال: لكن سحنون يمنع قبول شهادته، هذه وإن وقعت للأكبر من ولده على الأصغر، والرشيد منهما على السفيه الذي في ولايته. قال: وكأنه لم يطلب مقتضى هذه العلة، بل أشار إلى أنه كالحكم الذي ليس بمعلل فقال: ترد الشهادة، لأن رد شهادة الوالد لابنه من السنة.
قال الإمام: وأما إن كان الأمر بالعكس بأن شهد للصغير على الكبيرة،ولمن في ولايته على من خرج منها،وللبار على العاق، فإنه لا يختلف عندنا في رد شهادته لظهور التهمة بكون المشهود له آثر عنده، وأحب إليه من المشهود عليه.
فرع مرتب: إذا اعتبرنا اختلاف أحوال المشهود له والمشهود عليه، ورتبنا القبول والرد عليهما، فلو فرضنا خفاء علم ذلك عنا، ولم يظهر لنا منه ميل إلى أحد الأولاد، وكانوا في السن والرشد على حالة واحدة، وكذلك في البر والعقوق، فاختلف في شهادته بينهما:
فقيل: تُقْبَلُ، لان الأصل قبولها ولم يتحقق سبب التهمة، وهذا القول موافق لما اختاره أبو القاسم بن محرز.
وقيل: ترد، لأنه قد يحب أحد بنيه أكثر، ويخفي ذلك إشفاقاً على قلوب إخوته، فالتهمة ها هنا متطرقة بخلاف شهادته لأجنبي.
تتمة لهذا الوصف:
اختلف في أخوة الصداقة، هل تلحق بالقرابة المانعة من قبول الشهادة، أم لا؟ والمشهور أنها لا تلحق إذا كان ليس في نفقته ولا يشتمل عليه بره وصلته، وحكى ابن سحنون عن ابن كنانة أن شهادته إنما تقبل لصديقه في المال اليسير، ورأى أن الصداقة ربما كانت كأخوة من جهة النسب.
قال الإمام أبو عبد الله: وهكذا كل من كان في عيال إنسان ونفقته لا تقبل شهادة المنفق عليه للمنفق، لأن منفعة المنفق بالمشهود به في النفقة وهو شريكه فيها، فكأنه شهد لنفسه.
وأما شهادة المنفق للمنفق عليه فنص ابن حبيب على قبولها. ورأى بعض المتأخرين أنه إذا شهد لأخيه الذي في عياله لم يقبل، قال: لأنه يدفع بها نفقته عنه، إذ لو تركه بغير إنفاق للحقته معرة وسوء أحدوثة، فهو يدفع ذلك عن نفسه بشهادته له.
ومما تطرق إليه التهمة شهادة المديان المعسر لمن له عليه الدين، فلا تقبل لأنه كأسيره فيصانعه بها. وكذلك شهادة رب الدين له لا تقبل، لأنه يريد الاستيفاء مما يتحصل بشهادته له، فالأول دافع عن نفسه والثاني جار لها.
السبب الثالث: العداوة.
فلا يقبل العدو على عدوه، لكن يقبل له، فإن قيل: ما العداوة التي تمنع قبول الشهادة؟ قلنا: هي التي تكون لسبب من أسباب الدنيا، كالمنازعة في مال أو جاه أو ما في معنى ذلك، وهي التي تظهر التعصب وتحمل على الفرج بالمصيبة والغم بالسرور.
فأما إن كانت العداوة غضبًا لله سبحانه فلا تمنع القبول، فأن الغضب لله، لكون المغضوب عليه كافرًا أو فاسقًا، يدل على قوة الإيمان، فهو أولى بان يؤكد العدالة.
قال الإمام أبو عبد الله: لكن لو سرى ذلك إلى إفراط أذى من الفاسق المعادي لفسقه لمن غضب عليه وهجره لله سبحناه، حتى أوغر صدره وأحب من أجله ضرره، لوجب الوقف عن شهادته، إذ تحققت التهمة بينهما لخروجه عن العداوة الدينية إلى عداوة دنيوية، ولا، العداوة الدينية لو كانت تمنع لما قبلت شهادتنا على الكفار.
فرعان:
الفرع الأول: قال أبو الحسن اللخمي: اختلف فيمن كان عنده شهادة وكان يذكرها، ثم عاداه المشهود عليه فاحتج إلى القيام بالشهادة قال: وقبولها ها هنا أخف إذا كانت قيدت.
قال: واختلف في شهادة الرجل على ابن عدوه بمال أو بما لا يلحق الأب منه معرة، فأجازها محمد وإن كان الأب حيًا والابن في ولاء أبيه.
وقال ابن الماجشون: لا ترد إذا لم يكن في ولائه.
وقال أيضًا: لا تجوز بمال إذا كان الأب حيًا، يريد: وإن كان رشيدًا. قال: وإن شهد بعد موته بمال على الصبي جازت. وإن شهد بمال على الأب لم تجز، وإن كان المال صار للولد.
وقال ابن القاسم: إذا كانا أعداء لأب الصبي لم تجز شهادتهما ولو كانا مثل ابن أبي شريح وسلميان بن القاسم.
الفرع الثاني:
كل من لا تجوز شهادته على رجل فلا تجوز تزكيته لمن شهد عليه، ولا تجريحه لمن شهد له. وكذلك كل من لا تقبل شهادته لرجل فلا تقبل تزكيته لمن شهد له ولا تجريحه لمن شهد عليه.
السبب الرابع: التغفل.
قرب عدل لا يكون مطلعًا بفهم ما شهد فيه، وتذهب الأمور فيحمل الشيء على خلاف ما هو عليه. وقد يلقن فيقبل التلقين. ورب شيء يحمله فهم بعض الناس ولا يحمله فهم بعضهم. ورب شيء خفيف يفيئ بتحمله كل أحد، فما كان مثل الشيء الذي لا يكاد يلتبس، أو اللفظة التي لا تتعلق بغيرها ولا يطول الخطاب معها قبلت فيه شهادة كل عدل، وما كان من القصص الطويلة والأمور التي فيها مراجعة، ولا يؤمن على الشاهد إذا كان مغفلاً أن يذهب عليه بعضها، ولعل ما فهم متعلق بما ذهب عليه، فإن هذا وشبه لا يقبل فيه إلا من المتيقظ المميز.
السبب الخامس: الحرص على زوال التعبير اللاحق للشاهد، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: إظهار البراءة مما رمي به، وذلك مثل دفع عار الكذب، فمن ردت شهادته لفسق فتاب، ثم شهد بشهادته التي رد فيها، لم تقبل منه، لأنه يدفع بها عار التكذيب. وكذلك الشهادة المعادة من العبد والصبي والكافر إذا زال نقصهم الذي ردت شهادتهم من أجله لا تقبل أيضًا، لما في الطباع البشرية من شدة الحرص على غسل المعرة بالتكذيب للشاهد.
الوجه الثاني: قصد التأسي والتسلي بأن يجعل غيره مثله ليتسلى بذلك عند عجزه عن براءة نفسه كقصة زليخا. وقد قال عثمان رضي الله عنه: ودت الزانية أن النساء كلهن زنين. وقد نبه الله تعالى على التسلي بالاشتراك بقوله تعالى: ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون.
إذا تقرر هذا: فمن أتى كبيرة فحد لها كزان بكر جلد، أو سارق قطع، أو شارب حد، أو قاذف جلد، ثم تاب هؤلاء وصلحت أحوالهم حتى صاروا عدولاً، فإن شهادتهم لا تقبل في مثل ما حدوا فيه، هذا مذهب مطرف وابن الماجشون وأصبغ وسحنون.
زاد مطرف وابن الماجشون في الزاني والمنبوذ رد شهادتهما فيما يتعلق بالزنى أيضًا كاللعان والقذف.
وقال ابن الكنانة بقبول شهادة هؤلاء كلهم فيما حدوا فيه.
قال الإمام أبو عبد الله: وهو ظاهر الكتاب، وظاهر إطلاق غيره من الكتب المذكور فيها قبول شهادة هؤلاء مطلقًا. قال: وأما ولد الزنى فلم يختلف المذهب في رد شهادته في الزنى، وقبولها فيما سوى ذلك مما لا تعلق له بالزنى والفرق على قول ابن كنانة وظاهر الكتاب أن المعرة بإتيان كبيرة يكفرها الحد وتمحوها التوبة والورع والعفاف فيصير فاعلها كأنه لم يأت قبيحًا، إذ التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وأما ولد الزني فالمعرة لاصقة به أبدًا ما عاش، ولا تصح منه توبة عنها، إذ لم تكن من فعله، فافترقا.
السبب السادس: الحرص على الشهادة، وذلك في التحمل والأداء والقبول.
أم الحرص على التحمل فمثل أن يجلس مختفيًا في زاوية لتحمل شهادة، ينبني قبول شهادته على جواز تحمل الشهادة على المقر من غير أن يشهد على نفسه بما أقر به وهو المشهور. وإذا فرعنا عليه ففي كتاب محمد: تقبل شهادة المختفي إذا لم يكن المشهود عليه ضعيفاً أو مخدوعًا أو خائفًا، فقيل له: أيجوز أن يختفي له ليشهد عليه؟ فأجاب بأنه يتخوف ألا يحيط الشاهد علمًا بما كان من الخصمين، ثم قال: ولكن إن تحقق الإقرار كما يجب فليشهد. وحيث أجزنا شهادته فلا تحمل على الحرص.
وأما الحرص على الأداء فهو الابتداء به قبل طلبه، حيث لا تجب الابتداء به. والحقوق المشهود بها قسمان: حق الله تعالى، وحق لآدمي. وحق الله سبحانه نوعان: نوع يستفاد فيه التحريم، ونوع لا يستفاد فيه.
فأما ما يستفاد فيه التحريم فتقبل فيه الشهادة مع المبادرة، إذ تجب المبادرة بها وتأخير القيام بها من غير عذر جرحة، وهذا كالطلاق والعتاق والخلع والعفو عن القصاص وتحريم الرضاع والوقف على غير المعينين وشبه هذا، ولا يحمل ذلك على الحرص على الشهادة إذ هو مأمور به.
أما النوع الثاني وهو ما لا يستفاد تحريمه كالزنى وشرب الخمر وشبههما، فلا يجب الابتداء بها ولا يضر إخفاؤها، لأنه ستر وقد أمر به.
وقال ابن القاسم في المجموعة: يكتمها ولا يشهد بها إلا في تجريح إن شهد على أحد.
وأما القسم الثاني: وهو ما كان حقًا لآدمي فلا يبتدئ به وإن كان صاحب الحق لم يعلم بشهادته له، لكن إ1ا علم ذلك منه أعلمه بما له عنده من الشهادة، فإن طلبه بأدائها، أداها، وإن سكت عنه تركها، فإن بادر بها دون طلب لم تقبل.
وأما الحرص على القبول، فقال الإمام أبو عبد الله: قد قيل في الشهادة: إنه إذا شهد وحلف على صحة شهادته إن ذلك يقدح في شهادته، بكون اليمين كالعلم على التعصب والحميدة وشدة الحرص على إنقاذها. قال: وكذلك اختلف ابن القاسم ومطرف في حقوق الله عز وجل، إذا قام بها شهود وخاصموا المشهود عليه فيها، فرأى ابن القاسم أن ذلك يمنع من قبول شهادتهم، لأن المخاصمة علم على شدة الحرص على إنقاذ الشهادة والحكم بها، وشدة الحرص على إنفاذها قد تحمل على تحريفها أو زيادة فيها أو نقص منها لتنفيذ الشهادة بالتحريف. ورأى مطرف أن ذلك غير قادح لأن هذا تصرف فيه التهمة لأمور الآخرة، وقد تقدم أن العداوة لله سبحانه لا تؤثر في الشهادة، ولذلك قبلت شهادة المسلمين على الكفار، وإن كانوا أعداء من ناحية الدين.
السبب السابع:
تطرق التهمة من جهة الشذوذ في الشهادة ومخالفة العادة، كشهادة البدوي على القروي، وفيه ورد النص، فروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تقبل شهادة البدوي على القروي. وفي طريق أبي داود: ولا تقبل شهادة بدوي على صاحب قرية.
قال محمد بن عبد الحكم: تأوي لمالك هذا الحديث على أن المراد به الشهادة في الحقوق والأموال، ولم ترد به الشهادة في الدماء وما في معناها مما يطل به الخلوات، فلهذا قلنا: لا تقبل شهادة البدوي على القروي أوله في الحقوق التي يمكن الإشهاد عليها في الحضر دون القتل والجراح وشبههما.
قال الإمام أبو عبد الله وشيخه: والمراد بالحديث قصر الرد على موضع تحقق التهمة، قالا: وذلك إذا كتب خطه في الوثيقة أو في الصداق وهما في الحضر، فالعدول عن إشهاد العدول إلى إشهاده ريبة، قالا: فأما لو قال: مراً به فسمعتهما يتقارران، أو كانوا في سفر، فلا تهمة تقتضي الرد. قال الإمام: وعلى هذا الأسلوب جرى الأمر فيما ذكره في الكتاب في شهادة السؤال أنها لا تقبل إلا في التافه، اليسير، لأن العادة مطردة أن مثلهم لا يستشهدون ويوثق بشهادتهم، فالعدول إليهم في المعاملات عن الأغنياء المشهورين ريبة، وكذلك يسترابون في غير الأموال أيضًا لما استولى عليهم من كدية الناس، وتطلب أدنى محتقر من الطعام منهم، وتذللهم لهم في ذلك، فتنخرم الثقة بهم في كل ما له بال وقدر مما يشهدون به، اللهم إلا أن يكونوا فقراء لا يسألون ولا يقبلون الصدقة إن أعطوها، فإن شهادتهم تقبل في الظاهر من المذهب.
وقال ابن كنانة: لا تقبل في المال الكثير كخمسمائة دينار إذا لم يكونوا ظاهري العدالة.
قال الإمام أبو عبد الله: وهذا الذي انفرد به بعيد عن ظاهر الشرع وقواعده. وأشار بعض الأشياخ إلى تأويل هذه الرواية والاعتذار عنها بأن المراد بها كون إشهاد مثل هؤلاء فيما له بال والاستعداد بشهادتهم من الشاذ النادر، فرجعت إلى معنى الشذوذ. قال: وأما المتكفف فحكمه ما ذكر في الكتاب.
وأما من يسأل ولا يشهر بالمسألة، ولكن يسأل عند نائبه تنوبه الإمام أو رجلاً شريفاً، فإن ذلك يلحق أيضًا بالفقير المقبول الشهادة.
وأما من اشتهر بالمسألة وعرف بها وإن لم يكن متكففًا، فظاهر الرواية أنه يلحق بالفقير المتكفف.
فروع:
الفرع الأول: إن هذه الأسباب إذا زالت قبلت الشهادة، ولا يخفى حكم زوال الصبا والرق وأمثاله، وإنما يحتاج إلى النظر في زوال الفسق والعداوة، فإن التوبة مما تخفى، ولا يكفي قول الفاسق: تبت ولا أعود، ولا إقرار القاذف على نفسه بالكذب، بل يجب استبراء حالهما، وكذلك كل فاسق يقول: تبت، فإنه لا يصدق حتى يستبرأ مدة يظهر بقرائن الأحوال صلاح سريرته فيها، ويغلب على ظن أنه قد ندم عليها وكفرها بالتوبة والأعمال الصالحة.
قال الإمام أبو عبد الله: وقد حد بعض العلماء أمر الاستبراء لحال هذا التائب بمضي سنة من حين إظهاره التوبة. وأشار إلى ما أشار إليه من حد أجل العنين بسنة من أجل اختلاف أحوال الأزمان وجعل تأثيره في العزائم والشهوة في حق التائب كتأثيره في الطبائع والقوى في حق العنين. قال الإمام: وهو ضعيف، ثم قال: ومنهم من وقت بستة أشهر، وهو أضعف. ثم قال: والتحقيق أن يستند في ذلك إلى قرائن أحوال الرجال، فإن منهم من لا يظهر معتقده وباطنه على طول الدهر، ويغالط الحذاف بظاهره حتى يظنوه صالحاً وإن كان في الباطن زنديقًا. ومنهم من هو بالعكس من ذلك لا يقدر أن يظهر خلاف ما يبطن إلا زمنًا قليلاً يتكلف فيه استعمال نفسه، قال: فالصحيح الرجوع إلى قرائن الأحوال، وإسناد غلبة الظن، في الانتقال إلى العدالة، إليها، لا إلى مجرد مضي زمن.
الفرع الثاني:
إذا ظهر للقاضي بعد الحكم أنه قضى بشهادة عبدين أو كافرين أو صبيين نقض الحكم. وفي نقضه إذا كانا فاسقين خلاف، نقضه ابن القاسم، ولم ينقضه أشهب وسحنون.
الفرع الثالث:
إذا حدثت التهمة بعد أداء الشهادة لم تبطل الشهادة، وذلك كالرجل يتزوج المرأة بعد أن شهد لها، أو تقع بينه وبين المشهود عليه خصومة بعد أن شهد عليه.
وأما حدوث الجرحة في الشاهد بعد أداء شهادته فإنها تبطل شهادته فيها، وتبطل فيما يستقبل أيضًا. قال ابن الماجشون: لا تبطل شهادته هذه إذا كانت الجرحة شيئا ظاهرًا كالجراح والقتل ونحو ذلك.
خاتمة للباب: يذكر عبارة جامعة أوردها أبو القاسم بن محرز عن الشيخ أبي بكر في صفة من تقبل شهادته، قال: هو المجتنب للكبائر، المتوقي لأكثر الصغائر، إذا كان ذا مروءة وتمييز مستيقَظا، متوسط الحال بين البغض والمحبة. قال أبو القاسم: وقد أتت هذه الصفة على جميع ما ينبغي في الشاهد العدل.